«المتغطى بالأمريكان عريان».. عبارة نسبها الأمين العام الحالى لجامعة الدول العربية السفير أحمد أبوالغيط إلى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وهناك من الكتاب العرب من زعم براءة صكها وسط المفردات السياسية الأخرى بالمنطقة.
وبشكل عام بعيدا عن مالك الحق الحصرى للعبارة، ستظل تلك العبارة حتى زوال البشرية الجملة الأبلغ في وصف خيانة واشنطن للأصدقاء والتخلى عنهم والتآمر عليهم دون خجل أو مواربة، نحن فقط كمصريين وعرب اعتدنا النسيان بدافع التمنى والأمل المعقود بشكل دائم على صديق خائن نهرول إليه طواعية.
وما أشبه الليلة بالبارحة، عندما حط الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما رحاله الإقليمى داخل جامعة القاهرة عام 2009، وألقى تحية الإسلام علينا وعلى الأمة العربية، عقد العرب وقتها الآمال على الغازى الجديد، وتسابق الخبراء لوضع سطور تخيلية في الصفحة الجديدة بين الأمة ورجل البيت الأبيض، عوضا عن السنوات العجاف في عهد الجمهورى المتطرف “جورج بوش الابن”، وكالعادة خاب أمل الجميع، واستطاع “أوباما” إزالة أنظمة عتيقة بالابتسامات الناعمة.
التاجر الشاطر
اليوم وبعد وصول الجمهورى دونالد ترامب، تناسينا بارحة أوباما القريبة، وارتفع سقف الأحلام لدى العواصم العربية بميلاد حليف جديد، قرر اختيار الرياض كأولى وجهة خارجية له، ليثبت في ذهنية العرب حلم الحليف الموثوق.
لكنه –ترامب- بسبب اعتياده على الصفقات، وتغليب لغة البيع والشراء على السياسة بسبب خلفيته كرجل أعمال يجيد فن الصفقة، لم ينجح طويلا في لعب دور الحليف على مسرح السياسة في المنطقة، وبدأت مؤشرات الخيانة والتخلى عن الجميع بعدما استقبلهم على البوابات الرئيسية للبيت الأبيض.
التقرب لمصر
لقناعة ترامب –التاجر- بضرورة احتواء مصر المارقة، من وجهة النظر الأمريكية، بسبب ميلها لتنويع مصادر تسليحها وحلفائها الخارجيين، واتخاذها خطوات العودة إلى محور الشرق –الصين وروسيا- الذي أثبت التاريخ مصداقيته عن أبناء العم سام.
غازل الرئيس الأمريكى القاهرة، ونظم قصائد مديح في نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، مقدما وعودا مغلفة بالأكاذيب حول مستقبل العلاقات ودعم القاهرة في مواجهة الإرهاب، واستئناف إرسال المعونات العسكرية، وإدراج جماعة الإخوان على لائحة الإرهاب.
مزاد البيانات
خلال الأيام القليلة التي مضت على حكمه وشعوره الخادع بجذب مغناطيس واشنطن للقاهرة من وسط الطريق أثناء سيرها إلى حلفاء الشرق، وتحقيق ما أراد تحقيقه في قمة أمريكا والعالم الإسلامى بالعاصمة السعودية “الرياض”، وحصوله على صفقة تسليح لا تزال حديث الخبراء والإعلام، سارع لإخراج سيف الخيانة من غمده الذي يتسلمه ساكن البيت الأبيض لطعن الحلفاء العرب عقب أداء اليمين، وبدأ في توجيه الطعنات إلى السعودية في البداية، تمثل في موقفه المتخاذل تجاه قطر الراعية للإرهاب، والتي تمتلك أجهزة مخابرات بلاده المتوغلة في الشرق الأوسط أدلة ثبوتها، وبدلا من الاصطفاف إلى جانب السعودية والإمارات والبحرين ومصر ضد الدوحة، وضع الجميع أمام مزاد البيانات المؤيدة والرافضة.
تركيع مصر
بعد تحقيق الصفقات الأمريكية مقابل الانحياز وعدمه في أزمة قطر، جاء الدور على مصر ليطولها سيف الغدر المسلول تجاه دول الشرق الأوسط، والبداية كانت مع المساعدات الاقتصادية والعسكرية المقدمة للقاهرة، وشملت إجراءات التركيع، حجب بعضها ووصلت إلى توصية لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس بتخفيضها.
المثير في الأمر أنه وسط حالة الغم التي أصابت الحكومة المصرية من خذلان حليفه “ترامب” لها، وامتناعه عن تقديم أي وعد ملموس من وعودها السابقة للقاهرة، عاد بوجه جديد من خلال الاتصالات التليفونية الرامية لدس الأنف الأمريكى في الداخل المصرى سياسيا، وفرض إملاءات عليها لتحديد بوصلتها خارجيا.. منها تصعيد واشنطن وتحريك تقرير منظمة “رايتس ووتش” في وقت متزامن تكشف «فيتو» أسبابها الخفية والسيناريوهات المستقبلية المتوقعة في سطور التالية.
سر التصعيد
التصعيد المقصود ضد مصر كشف جزءا من أسبابه “ترامب”، بطلبه منها تحجيم علاقاتها مع كوريا الشمالية من باب جس نبض مدى الاستجابة للإملاءات والعودة إلى بيت الطاعة، وقياس مدى جاهزية القاهرة لإعادة فتح الأبواب للمنظمات الحقوقية الأمريكية، التي تعد مكاتب متقدمة لأجهزة الاستخبارات، تمكنها من الاطلاع على كل صغيرة وكبيرة وتساعد في تجنيد أصحاب النفوس الضعيفة والشهية المفتوحة لابتلاع “الدولارات الحرام”.
أيضا طالب السيناتور الجمهورى جون ماكين بالإفراج عن 20 سجينا في مصر يحملون الجنسية الأمريكية، وجميعهم متورطون في قضية تمس الأمن القومى للبلاد، على خلفية انتمائهم لجماعة الإخوان وأبرزهم أحمد عطوى ومصطفى قاسم، وهما الشخصان اللذان ذكرهما ماكين بالاسم في بيانه المستفز، مطالبا خلاله بممارسة ضغوط على النظام المصرى وإيقاف المعونة حتى تنفيذ مطلبه.
تقرير رايتس ووتش
وسط قنبلة دخان تخفيض وحجب المعونة، خرج علينا فأر”رايتس ووتش” لينضم إلى لعبة التركيع بتقرير مزعوم عن التعذيب في السجون المصرية، وتحركت الآلة الإعلامية الأمريكية أحد أركان الدولة العميقة هناك بفيض غزير من المقالات المهاجمة والمنتقدة للأوضاع السياسية والمطالبة بضرورة تقليم أظافر مصر.
الهجمة التي نظمت تفاصيلها جيدا، ظاهرها حقوق الإنسان، وباطنها العقاب على خروج القاهرة من العباءة الأمريكية، وتنويع مصادر تسليحها للهرب من الوقوع رهينة في يد واشنطن، في أي حروب تظل محتملة مع العدو الإسرائيلى، والسعى لتحديث منظومة التسليح لحماية الأمن القومى داخليا وخارجيا، في ظل عدو قابع على حدودنا الشرقية والغربية يختبئ تحت تعريف الإرهاب لإخفاء أهدافه وصانعه الحقيقى.
وتعمدت أمريكا توصيل رسائل الابتزاز في توقيتات تم اختيارها بعناية، الأولى، تزامنت مع زيارة جاريد كوشنر صهر ترامب للقاهرة، وتسريب خبر حجب جزء من المعونة وقت اجتماعه مع الرئيس السيسي، ما يدلل على قائمة مطالب محملة بمطالب تلبى طموح أصوله اليهودية لصالح الاحتلال الإسرائيلى على حساب القضية الفلسطينية.
الرسالة الثانية، أيضا تم إرسالها إلى “السيسي” تزامنا مع حضوره قمة “بريكس” في الصين التي جمعت حلفاء الشرق لمصر، وتكللت بالإعلان عن توقيع اتفاقية محطة الضبعة النووية في حضور الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، والكشف أيضا عن رفع الحظر المفروض على الطيران الروسى منذ حادث طائرة سيناء، والذي علمت “فيتو” أنه سيكون يوم 5 أكتوبر المقبل كهدية لمصر في احتفالات انتصار حرب أكتوبر.
ضربات خيانة الحليف الأمريكى التي بدأت مع اقتراب الربع الأخير من العام 2017، تعد تمهيدا لتصعيد الهجوم مع مطلع العام المقبل 2018 مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، بهدف الضغط على النظام المصرى وإرباكه واستخدام ورقة الحلفاء القدامى –الإخوان- الذين ساعدوا واشنطن بقوة في نشر الفوضى إبان ثورة يناير، ومكنوا أوباما حينها من الجلوس مستريحا على المكتب البيضاوى أثناء حديثه الهاتفى إلى الرئيس السابق حسنى مبارك ومطالبته بمغادرة منصبه فورا.
سيناريوهات الشهور المقبلة
بطيبعة الحال وبعد ظهور بريق حد سيف ترامب في ظلام سماء الغدر، من المتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة تصعيدا ممنهجا ضد الدولة المصرية وإرباكها، وعلى ما يبدو أن “ترامب” تتملكه رغبة عارمة في تحميل صدر القاهرة بجراح غائرة قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال الأيام المقبلة من سيتمبر الجاري، ويهدف إلى جلوس القيادة السياسية المصرية أمامه لتشكو من الضغوط الأمريكية، بعدما جلس أمامه الرئيس عبد الفتاح السيسي كزعيم منقذ لبلاده في نفس الحدث العام الماضى، وقال حينها: «أنه شعر بالكيمياء مع السيسي».
الأمم المتحدة
تقرير “رايتس ووتش” من المرجح أن يكون مقدمة لممارسة ضغوط أممية على مصر، من خلال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في ظل قناعة واشنطن بعدم هرولة القاهرة خلف المعونة الأمريكية المجمدة من الأساس، ولم يضع منعها أي عقبات في طريقها، ونجحت في تحديث منظومة تسليحها والسير في خطوات الإصلاح الاقتصادى بعيدا عن الهيمنة والإملاءات.
ويفسر هذا الأمر سر صدرو التقرير المسيس حول أوضاع السجون كورقة رابحة يمكن استغلالها جيدا في القريب العاجل ضد النظام المصرى دوليا، قبيل انطلاق الانتخابات الرئاسية، بهدف خلق حالة من الشوشرة السياسية، وفتح نافذة لخصوم النظام المتمتعين بحماية أمريكية، للظهور من جديد عبر فضائيات وصحف الغرب وتأليب الرأى العام الخارجى مقابل الرضوخ الداخلى وتنفيذ قائمة مطالب وضعتها واشنطن لفرضها على الرئيس المصرى خلال ولايته الثانية.
بواعث القلق
اللعب على المكشوف الجارى الآن بين القاهرة وواشنطن، من المؤكد أن الدولة الرسمية تعيه جيدا ومستعدة لجميع السيناريوهات المحتملة مستقبليا، والرامية إلى تنفيذ عملية خنق في عنق الزجاجة، لكن ما يبعث على القلق الفعلى الآن مدى نية واشنطن في إعادة الدولة المصرية إلى عصر الفوضى، وإخراجها من المعادلة الإقليمية مجددا، بعدما ظهر دورها في أزمات المنطقة خصوصا سوريا وليبيا وتمددها أفريقيا وآسيويا..
خصوصا أنه بات من الواضح تراجع الإدارة الأمريكية عن اللهجة العدائية ضد إيران التي لعب عليها ترامب خلال حملته الانتخابية، وتفكيك المحور السنى الذي دعا إليه قبل تشكيله من الأصل، وهنا يجب التدقيق والتحليل الاستخباراتى لعودة الكاتب السعودى جمال خاشقجى للتحريض والتطاول على مصر من قلب العاصمة الأمريكية، والتندر على عدم احتواء السعودية لثورة يناير وتجديد النبش في السياسية الداخلية لمصر.