«مصر» و«الجزائر».. ومشاهد لها تاريخ

ثورة الجزائر انطلقت من مكتب في وزارة الداخلية المصرية بجوار مكتب ناصر

انتقل الجزائري من القاهرة ليصبح سجينا في فرنسا

«فتحي الديب» رجل المخابرات المصري مهندس «اتفاقية ايفيان»

21 طلقة مدفع في استقبال السجين الجزائري وزملائه عقب الاستقلال

المدفعية لا تطلق إلا عندما يصل رئيس الدولة الزائر إلى أرض المطار

«بن بللا» رفض عرضاً ألمانياً بالرشوة ليبتعد عن «عبدالناصر»

«ناصر» يصف العرض الألماني بأنه «رشوة رخيصة»!

خناقة حامية بين «ناصر» و«عارف» و«بن بللا» من ناحية و«خروشوف» من ناحية أخرى 

ثورة عربية ضد الزعيم السوفيتي لوصفه أحد الرؤساء العرب بأنه «عنزة»!

 

(1)

مشاهد عاصرناها... تفاعلنا معها، وانفعلنا بها.. وشكلت وجداننا.

في السنوات الأولى لثورة 23 يوليو تولى جمال عبدالناصر وزارة الداخلية في مصر، وأصدر أوامره بتخصيص مكتب في الوزارة لشاب ليس مصريا.. يجلس بالقرب منه ويخطط معه لقيادة ثورة في بلد هذا الشاب.

كانت الثورة ضد الاحتلال الفرنسي لوطنه.. هذا الشاب اسمه «مزياني مسعود» الاسم الحركي لـ «أحمد بن بللا» زعيم ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي.

مرت سنوات.. ويصبح «أحمد بن بللا» سجينا في سجون فرنسا ومعه بعض زملائه الثوّار.

 

(2)

في بداية ستينيات القرن العشرين تم التوصل الى «اتفاقية ايفيان»، وبموجب هذه الاتفاقية نالت الجزائر استقلالها، وانتصرت ثورتها، وكان الى جانب الوفد الجزائري في المفاوضات التي أسفرت عن توقيع الاتفاقية ضابط المخابرات المصري «فتحي الديب» الذي يعتبر بحق مهندس الاتفاقية.

كان «فتحي الديب» على اتصال مباشر بـ «جمال عبدالناصر».. يخطط معه، ويتلقى توجيهاته، ويتحرك في ضوئها الى أن وقعت الاتفاقية، وأعلن استقلال الجزائر.

 

(3)

عقب توقيع الاتفاقية وإعلان الاستقلال، أُفرج عن السجين «أحمد بن بللا» وزملائه.

وتقديرا لدور مصر في مساندة الثورة قرر «أحمد بن بللا» وزملاؤه التوجه أولا الى القاهرة.

وصل «أحمد بن بللا» وزملاؤه.. يومها كنت أعمل في «أخبار اليوم»، وكنت الى جوار نائب رئيس التحرير المسؤول عن إصدار الجريدة.. وفجأة دخل صالة التحرير «مصطفى أمين».. وكان الوقت الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم.

وقفنا كالتلاميذ أمام أستاذهم.. فوجئنا بـ «مصطفى أمين» يسأل عن «مانشيتات» الجريدة التي ستصدر في الغد.

عرض نائب رئيس التحرير «عبدالسلام داوود» ــ يرحمه الله ــ «المانشيت» الرئيسي، وكان:

«خرج الشعب لاستقبال بن بللا وزملائه الأبطال»

لكن «مصطفى أمين» سأل (ولم ينظر إلينا): هل سمعتم المدافع؟

أجبنا: «نعم»

أخرج القلم وشطب «المانشيت» وكتب غيره:

«أطلقنا المدافع.. وخرج الشعب لاستقبال بن بللا وزملائه»

«المانشيت» ليس معناه الإثارة أو التهويل، إنما له معنى سياسي يدركه ويفهمه المحللون والمراقبون السياسيون في مركز البحث ومراكز التحليل السياسي في دول العالم.

المعنى السياسي «للمانشيت»: ان المدفعية لا تطلق 21 طلقة إلا عندما يصل رؤساء الدول الى مطار الدولة التي وصلوا اليها، فكأن القاهرة تعترف بالجزائر دولة مستقلة ذات سيادة.

المعنى السياسي الثاني «للمانشيت»: ان القاهرة تعترف بـ «أحمد بن بللا» رئيسا لجمهورية الجزائر المستقلة ذات السيادة.

 

(4)

المشهد يحكيه «محمد حسنين هيكل»:

الزمان: يوم التاسع من شهر مايو 1964.

وصل الى مدينة الاسكندرية الزعيم السوفيتي «خروشوف».. كان الزعيم السوفيتي قد جاء في زيارة إلى مصر لحضور حفل عملية تحويل نهر النيل في 14 مايو 1964.

كان البرنامج يتضمن كلمات يلقيها الرئيس العراقي في ذلك الوقت «عبدالسلام عارف» والزعيم السوفيتي «خروشوف» و«جمال عبدالناصر».. وكانت إحدى محاكم العراق قد أصدرت قبل أسبوعين من ذلك التاريخ حكماً بإعدام اثنين من الشيوعيين العراقيين.

«خروشوف» قدم لـ «عبدالناصر» (وسام لينين) من لقب «بطل الاتحاد السوفيتي»

«عارف» بدأ خطابه.. استشهد بآيات من القرآن الكريم.. كانت الجماهير تتجاوب معه، و«خروشوف» لم يستطع إدراك لماذا تتجاوب الجماهير.. انزعج من الاستقبال الذي قوبل به «عارف»!

التفت إلى «عبدالناصر» قائلا:

«يا صديقي الرئيس عبدالناصر، إلى متى ستفرض عليَّ صحبة هذه (العنزة) »؟

تساءل عبدالناصر:

أي «عنزة»؟

أجاب خروشوف:

عارف.. عارف.. عارف.. وسأل:

ألا يشبه «المعزة»؟

وفي رحلة بحرية للصيد، عبر «عارف» لـ «خروشوف» عن إعجابه الكبير بالاتحاد السوفيتي، فصده «خروشوف»:

لا نستطيع أن نصادق الذين يشنقون الشيوعيين!

وتصدى «بن بللا» الذي كان حاضرا للدفاع عن الوحدة العربية والقومية العربية.. وشارك في الرد «جمال عبدالناصر» قائلا للزعيم السوفيتي:

«ها أنت تعيدنا إلى ساحات الخصومات القديمة.. بصفتي مضيفا لم أشأ أن أشترك في المناقشة وكنت سعيدا ان أتركها لك ولـ «بن بللا» ولكن يجب أن أشترك فيها الآن.

ومضى «ناصر» قائلا:

نقول ان هناك وحدة واحدة هي وحدة الطبقة العاملة، إذن.. كيف تستطيع أن تفسر حقيقة التخاصم الحالي بين الاتحاد السوفيتي وهما الدولتان اللتان تحكم فيهما الطبقة العاملة؟!

ومضى ناصر:

كيث حدثتني عن الحرب العالمية الثانية وانت تسميها الحرب الوطنية العظمى؟ ولماذا لا تسميها الحرب الايديولوجية العظمى؟

اعتقد ــ استنادا الى ما قلته ــ ان السبب هو ان الحرب كانت أكبر من حرب الحزب ــ يقصد الحزب الشيوعي ــ لقد كانت الوطنية هي التي تصدت لتحدي هتلر وجابهته.

وقال «عبدالناصر» لـ «خروشوف»:

قلت لي قبل ثلاثة ايام ان «ستالين» فوجئ عندما غزا النازيون روسيا، وانه أغلق على نفسه باب غرفته، وأخذ «يشرب» بصورة متواصلة، ولم يتسلم أي تقارير عن الحرب.

واستمر عبدالناصر في كلماته:

انك تقول لنا انه لا يمكننا ان نهاجم الشيوعيين، فكيف تهاجم ستالين؟

اننا نهاجم الشيوعيين الأشرار و«ستالين» مثال ساطع على الشيوعي الرديء!

ويقول هيكل في شهادته:

استبد الغضب المطبق بـ «خروشوف» وصاح:

أستطيع أن أهاجم «ستالين»، لكنكم لا تستطيعون مهاجمته.. ليس لكم الحق في مهاجمته!!

يقول هيكل:

استمرت المحاورة بين «ناصر» و«بن بللا» و«عارف» من ناحية و«خروشوف» من ناحية أخرى.. انتهت بتفهم الموقف العربي.

ويضيف هيكل:

ومنذ ذلك الحين صارت البلاغات عن نتائج اجتماعات الدول العربية مع السوفيت تذكر الوحدة العربية.

 

(5)

عقب تصاعد الأزمة الديبلوماسية بين مصر من ناحية وألمانيا الاتحادية من ناحية أخرى ــ مثل إعادة توحيد ألمانيا ــ حدث أن تلقى عبدالناصر في بداية عام 1964 تقارير من الملحق العسكري المصري في «بون» عن مدى التعاون بين ألمانيا واسرائيل، وتمثلت صورة التعاون في حقيقة ضخمة زودت بموجبها ألمانيا اسرائيل بأسلحة أثارت تعجب «عبدالناصر»

أرسل «ابرهارد» مندوبا يشرح لـ «عبدالناصر» أسباب تزويد ألمانيا لإسرائيل بالسلاح وبهذا الحجم.

سأل «عبدالناصر» المندوب الألماني عن سبب قبول ألمانيا للابتزاز الصهيوني.. وحدثت الأزمة، وحاولت ألمانيا بشتى الطرق توضيح الصورة، وتلقى «عبدالناصر» دعوة لزيارة «بون» في وقت تتوقع فيه العاصمة الألمانية زيارة ملكة بريطانيا.. وأخبرته حكومة ألمانيا بسرورها بفرش السجاد الأحمر له قبل الملكة!

يقول هيكل:

لكن هذا التملك كان كريها على قلب عبدالناصر.. فأجاب:

إنني لا يساورني أي اهتمام بالبساط الأحمر قبل الملكة.. فأنا لا أتنافس معها!!

ويمضي هيكل:

كان «ايرهارد» ــ رئيس الدولة الألمانية ــ يخشى أن تعترف القاهرة بحكومة برلين الشرقية، ويخشى أن تقتدي دول العالم العربي بمصر فتعترف بحكومة ألمانيا الشرقية.. وسعى الى عزل مصر عن الدول العربية.

وهنا يأتي الهدف من استعراضنا لهذا المشهد؛ لنرى موقف الجزائر من مصر كما جسده الرئيس الجزائري «أحمد بن بللا».. يقول هيكل:

في سياق ذلك أرسل «ايرهارد» الى «أحمد بن بللا» يرجوه ألا يقتدي بالقاهرة اذا قرر ناصر الاعتراف بألمانيا الشرقية.. وقال أيضا:

ألمانيا الغربية تمد القاهرة بالمساعدة.. وإنه - أي ايرهارد - سيأمر بوقف المساعدة وتحويلها الى الجزائر.

كيف تصرف أحمد بن بللا؟

يجيب هيكل:

رد «بن بللا» على السفير الالماني الذي حمل الدعوة:

إنني أعتبر ذلك رشوة لا يمكن قبولها

لم يكتف «بن بللا» بذلك، وإنما أرسل برقية الى عبدالناصر ينبئه فيها بعرض «ايرهارد».

ردَّ عبدالناصر معلقا في خطاب علني في أسوان:

«هذه رشوة رخيصة»!!